تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 316 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 316

316 : تفسير الصفحة رقم 316 من القرآن الكريم

** قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ أَوّلَ مَنْ أَلْقَىَ * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنّكَ أَنتَ الأعْلَىَ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ * فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ
يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام, أنهم قالوا لموسى {إما أن تلقي} أي أنت أولاً {وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقو} أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر, وليظهر للناس جلية أمرهم {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وفي الاَية الأخرى أنهم لما ألقوا {قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وقال تعالى: {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} وقال ههنا: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد, بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها, وإنما كان حيلة, وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً, فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملاَن حيات يركب بعضها بعضاً.
وقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه, فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألقِ ما في يمينك يعني عصاك, فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس, فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته, والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة, فقامت المعجزة واتضح البرهان, ووقع الحق وبطل السحر, ولهذا قال تعال: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ {ولا يفلح الساحر حيث أتى} قال: لا يؤمن به حيث وجد» وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً. فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه, ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل, وأنه حق لا مرية فيه, ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون, فعند ذلك وقعوا سجداً لله, وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون, ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة, وفي آخر النهار شهداء بررة. وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً, وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً, وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً, وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً, وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً, وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن علي بن حمزة, حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت السحرة سبعين رجلاً, أصبحوا سحرة, وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح بمكة, حدثنا ابن المبارك قال: قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً, رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها, قال: وذكر عن سعيد بن سلام, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سيعد بن جبير قوله: {فألقي السحرة سجد} قال: رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم, وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة.

** قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ * قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَـَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ * إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل, حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والاَية العظيمة, ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم, وغلب كل الغلب, شرع في المكابرة والبهت, وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة, فتهددهم وتوعدهم وقال: {آمنتم له} أي صدقتموه {قبل أن آذن لكم} أي ما أمرتكم بذلك وأفتنتم علي في ذلك, وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى, واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه, كما قال تعالى في الاية الأخرى: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون}, ثم أخذ يتهددهم فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي لأجعلنكم مثلة, ولأقتلنكم ولأشهرنكم, قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله {ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} أي أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى, فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه, فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم, هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل و{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين, {والذي فطرن} يحتمل أن يكون قسماً, ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات, يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين, فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت, {فاقض ما أنت قاض} أي فافعل ما شئت, وما وصلت إليه يدك, {إنما تقضي هذه الحياة الدني} أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال, ونحن قد رغبنا في دار القرار {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايان} أي ما كان منا من الاَثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من الحسر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما أكرهتنا عليه من السحر} قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل, فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء, وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض, قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقوله: {والله خير وأبقى} أي خير لنا منك {وأبقى} أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا, وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله. وقال محمد بن كعب القرظي {والله خير} أي لنا منك إن أطيع {وأبقى} أي منك عذاباً غن عصي, وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً. والظاهر أن فرعون ـ لعنه الله ـ صمم على ذلك, وفعله بهم رحمة لهم من الله, ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

** إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ * جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون, يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي, ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد, فقالوا: {إنه من يأت ربه مجرم} أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم {فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} كقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} وقال: {ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى} وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا إسماعيل, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها, فإنهم لا يموتمون فيها ولا يحيون, ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر, فبثوا على أنهار الجنة, فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم, فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية, وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل, كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي, حدثنا حيان, سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الاَية {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون, وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون, فتجعل الضبائر, فيؤتى بهم نهراً يقال له الحياة أو الحيوان, فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل».
وقوله تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله {فأولئك لهم الدرجات العلى} أي الجنة ذات الدرجات العاليات, والغرف الاَمنات, والمساكن الطيبات. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, أنبأنا همام, حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, والفردوس أعلاها درجة, ومنها تخرج الأنهار الأربعة, والعرش فوقها, فإذا سألتهم الله فاسألوه الفردوس» ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: كان يقال: الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة, بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فيهن الياقوت والحلي, في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد, وفي الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم ـ قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء قال ـ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن: وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما. وقوله: {جنات عدن} أي إقامة, وهي بدل من الدرجات العلى {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه} أي ماكثين أبداً {وذلك جزاء من تزكى} أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك, وعبد الله وحده لا شريك له. واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من خير وطلب.